عرب وعالم / السعودية / عكاظ

ما لا تنطقه الألسنة.. تبوح به الثقافات

في زمنٍ تتداخل فيه العوالم وتتقاطع، لم تعد اللغة وحدها كافية لخلق التفاهم. لم يعد مجدياً أن تترجم الكلمة وتظن أن المعنى قد وصل، فالمعاني لم تعد تسكن المفردات فقط، بل تسكن السياقات، والإشارات، والنبرة التي تُقال بها الكلمة، وحتى في الصمت الذي يليها.

نحن نعيش في عالم متشابك، لا يشبه بعضه بعضاً. ما يبدو بديهياً في ثقافة، قد يكون غريباً أو حتى مستفزاً في ثقافة أخرى. كلمةٌ عابرة في بيئة ما، قد تحمل دلالات ثقيلة في بيئة ثانية. وهنا، تظهر الحاجة الملحة إلى ما يتجاوز الترجمة الحرفية، إلى الترجمة التي تفكّك رموز الثقافة، وتُعيد شرحها بلغة الآخر، دون أن تفقد جوهرها.

لم نعد نترجم للّغة، بل نترجم للثقافة. وهذا ما بدأت تدركه بعمق مؤسسات اليوم، خصوصاً الجهات التي تتحرك في المساحات العابرة للحدود، مثل وزارة الثقافة، التي لم تكتفِ بأن «تُعرّف» العالم بثقافتنا، بل بدأت تشرحها، تفسّرها، وتُعيد روايتها بما يكفل فهمها في سياقها الحقيقي، ومعناها الأصيل، على نحوٍ لا يُفقدها صلتها بجذورها.

الفرق بين النقل وإيصال المعنى، هو الفارق بين من يُلقي خطاباً بلغة أجنبية، وبين من يُلقيه بلغة أجنبية ويُحسَنُ إيصال روحه ليجعل معناه محسوساً كما لو قيل بلغته الأم. وبين من يقدّم طبقاً من الطعام كما هو، وبين من يشرح لك طقوس إعداده، وأسباب مكوناته، وقصته في الذاكرة الشعبية وسياقه الثقافي.

تُدرك المؤسسات الثقافية اليوم أن دورها لا يقتصر على الترويج لمظاهر الثقافة، بل على توسيع مساحة الفهم بين الشعوب، تقريب المسافات، وبناء الجسور، فهي لا تنقل العناصر الثقافية كما هي فحسب، بل تعمل على شرح سياقاتها، وتفسير رموزها، وتقديمها بما يعكس معناها الحقيقي. وهنا تتجلّى قيمة من يملك وعياً مزدوجاً: يفهم ثقافته جيداً، ويفهم ثقافة الآخر بنفس القدر. يُجيد التعبير عن ثقافته كما هي، ويُحسن مخاطبة الآخر بلغته ومنظومته الثقافية والفكرية.

وهؤلاء ليسوا مجرد مترجمين لغويين.. بل هم رُسل للثقافة. يَعبُرون بالمعاني بين العوالم، ويفككون الالتباسات، ويجعلون الاختلاف مفهوماً لا مرفوضاً. وربما هذا هو التحدي الحقيقي اليوم: ألّا نظن أن الوصول للجماهير بالضرورة يعني إيصال المعنى، وأن الحضور يعني التأثير. فكم من رسالة عبرت القارات، لكنها لم تُفهَم لأنها لم تُترجم ثقافياً. وكم من خطاب لامس القلوب، لأنه لم يكتفِ بالكلمات، بل أدرك كيف يُعيد تشكيل وبناء المعنى.

في ، نحن لا نعيش فقط عصر التواصل، بل عصر ترجمة ما وراء اللغات، حيث يُنقَل المعنى بكل ما فيه من شعور، وسياق، وهوية. وهذه ليست ترجمة تُنتجها الحروف، بل وعيٌ يُبصر ما لا تقوله الكلمات.

فما لا تنطقه الألسنة.. تبوح به الثقافات.

أخبار ذات صلة

 

ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة عكاظ ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من عكاظ ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.

قد تقرأ أيضا