مارلين سلوم
سخية السينما العربية بضخ أفلام تواكب الجمهور في كل المواسم، لكنها «بخيلة» علينا بنوعية الأفلام المميزة بل قل الثمينة، قطع فنية نادرة، لا تشبه ما سبقها وتبقى فريدة بكل ما فيها، تلك الأفلام تعرفها منذ المشهد الأول، ولا تتوقع لها أن تنال إقبالاً جماهيرياً عالياً ولا تدخل في سباقات شباك التذاكر، لأنها مثل كل قطعة ثمينة لا يقدر عليها إلا من يجيد تقييمها. من تلك النوعية النادرة يأتي فيلم «ضي.. سيرة أهل الضي» إلى الصالات ليعلن عن ولادة مميزة، تذكرنا بالأفلام الرائعة التي عرفتها السينما العربية، وحملت تواقيع مخرجين كبار مثل يوسف شاهين، وداود عبد السيد، وغيرهما، ممن قدموا أفلاماً لم تعرف طريقها إلى الثراء المادي بملايين الإيرادات في الصالات، ولكنها حفرت لنفسها مكاناً في دفاتر السينما العربية المتميزة والثرية بمضمونها وكل ما فيها، والتي ستبقى خالدة ونتباهى بها لأنها تستحق أن تمثل إنتاجنا العربي وتنافس بقوة في كل المهرجانات العالمية.
«ضي» ليس فيلماً عادياً، مثل اسمه يحمل ضوءاً ليرى الجمهور جوانب غير مرئية في حياتنا اليومية، يُخرج إلى النور بعض النماذج التي تعيش في العتمة، لأنها تعاني أزمة أو اختلافاً يتسبب في ابتعاد الناس عنها أو الخوف منها، ودائماً تكون محط تنمر وربما سخرية وكأنها مخلوقات منبوذة لا يحق لها العيش بشكل طبيعي كباقي البشر. «ضي» يضيء على «أهل الضي» والمقصود بهم المصابون بمرض «المهق» أو «ألبينو»، وهي حالات وراثية تتجسد بغياب أو نقص صبغة الميلانين المسؤولة عن لون الجلد والشعر والعينين، هؤلاء لا يستطيعون مواجهة الشمس، لأنها تسبب لهم أذى صحياً، أحياناً يهربون من المجتمع، ومن نظرات الناس وسوء فهمهم لحالتهم، بل وخوفهم منهم وكأنهم يحملون وباء معدياً.
محاذير اجتماعية
نادراً جداً ما تبحث السينما عن الحالات المميزة وأصحاب الحالات المرضية الخاصة، لا أذكر أننا رأينا سابقاً مصاباً حقيقياً ب«ألبينو» بطلاً لفيلم عربي، لذلك اخترق «ضي» المحاذير الاجتماعية ليخرج إلى الضوء كاشفاً عن حكاية ضي (بدر محمد) ابن النوبة الذي يملك صوتاً جميلاً وحلماً كبيراً بأن يصبح مغنياً، لكن كيف يتحقق الحلم وهو يعيش أسير المنزل، يتسلل خلسة منه إلى المدرسة، حيث يواجه تنمر الأطفال، ويدخل في دوامة الخوف والارتباك والصراع من أجل الدفاع عن النفس. والدته زينب (إسلام مبارك) تمنعه من الخروج، بينما تشجعه مدرّسته صابرين (أسيل عمران) على الغناء، بينما شقيقته ليلى (حنين سعيد) تعامله هي أيضاً بغضب وتسخر من ضعفه وعدم قدرته على الدفاع عنها وعن والدته باعتباره الشاب (وإن كان أصغر منها سناً)، كما تعترض باستمرار على شدة تدليل والدتها لضي ومحاوطته بشكل مبالغ فيه. زينب فتاة واهية وتجيد صناعة الأساور والأكسسوارات من الفضة، بينما ضي لا يفعل شيئاً رغم رغبته الشديدة في التعلم وحبه للغناء وهو يملك الموهبة والصوت القوي.
الفيلم يحكي قصة جديدة لم تعرضها السينما قبلاً، قصة ابن ال13 عاماً المصاب بالمهق، بينما شقيقته سمراء البشرة مثل والدتهما، يقول لشقيقته أنت وأنا مثل الليل والنهار نكمل بعضنا بعضاً، لا يعاني تنمر الأطفال فقط، بل إن والدته أيضاً تخاف عليه لدرجة أنها تحبسه في المنزل وتمنعه من التحرك من دونها، فيضطر إلى الهروب والخروج خلسة. ما زاد الفيلم تميزاً هو إدراك المخرج لأهمية هذه القضية، فجعل الأبطال الأربعة الرئيسيين، يتساوون في مساحة وحجم الدور، وأحاطهم بمجموعة من كبار النجوم يشاركون بمشاهد قصيرة كضيوف شرف، 12 نجماً يدورون حول الأبطال الأربعة ليكتمل القمر.. ضي يضيء مثل القمر، والفيلم يضيء على القضية الإنسانية التي تعيش في العتمة، ليخرج أهل المهق إلى النور، فيلتفت إليهم الناس ويشاركونهم أفراحهم بل ليفهمهم الناس أكثر، علماً أن المؤلف هيثم دبور لم يسلّط الضوء على أصحاب المهق فقط، بل قدّم نموذجاً آخر من خلال شخصية زناتي الذي جسده أحمد حلمي، رجل إطفاء يخفي ملامح وجهه بقناع أسود ولا نرى منه سوى العينين، رجل مرهف المشاعر، شهم بل مقدام يسرع لمساعدة الناس ويخاطر بروحه إذا اقتضى الأمر، لكن الناس يخافون منه ويتجنبونه بسبب تشوهات في وجهه، وحين تحرر ضي من قيوده وخوفه وانطلق لتحقيق حلمه بالغناء، حرر معه آخرين من أسر نظرة المجتمع لهم، من بينهم زناتي.
يستحق الفيلم أن نشاهده كثيراً وأن يشاهده الأطفال أيضاً، لأنه يحمل الكثير من المعاني الإنسانية المهمة، وبراعة هيثم دبور في الكتابة التقت مع عبقرية وبساطة كريم الشناوي في إخراج وتقديم فيلم شديد الإتقان بكل تفاصيله، فليست الكلمات هي التي تمس مشاعرنا فقط، بل تزيدها الصورة عمقاً وتأثيراً، كذلك اختيار أماكن التصوير، بل كل كادر ولقطة يتوقف عندها المخرج في أكثر من موقف ومحطة في الفيلم تعتبر لوحة غنية بالمعاني ومعبرة جداً عن الرسالة التي يحملها إلينا الفيلم، وفي بعض المواقف تأتي الصورة لتغني عن ألف كلمة، منها إظهار ضي بشكل متعمد مثل الشبح بالجلابية البيضاء التي يرتديها وانعكاس الضوء عليه بشكل يجعله يبدو كالشبح، وهو يكره الأبيض ويكره الشمس، الأول لأن الناس ينادونه «الشبح» حين يرتديه، والثانية لأنها تؤذيه وتعوّد منذ طفولته أن يختبئ منها، فوالدته زينب كانت دائماً تخفيه عن عيون الناس وتخاف عليه منهم. كذلك مشهد وصول ضي وزينب وليلى وصابرين إلى القاهرة، حيث يقفون في الشارع مقابل بنايات ضخمة لا يمكن أن تعد شققها وشرفاتها من كثرتها. لأن القصة تخرج من قلب النوبة، كان لا بد أن يتأثر ضي صاحب الصوت الجميل بالفنان محمد منير، وأن يردد أغانيه طوال الوقت، ويعتبر الفيلم تحية تقدير لهذا النجم الذي يظهر بمشهد في الفيلم ويرافقنا طوال أحداثه بصوته وأغانيه، علماً أن منير يغني تتر الفيلم بصوته. تسلسل الأحداث منطقي، وتوافد ضيوف الشرف مبرر، وبشخصيات متنوعة، وقد أثرت العمل وأضافت له، صحيح أنها تبدو بمثابة دعم مباشر من هؤلاء الفنانين لتلك القضية الإنسانية، لكنّ كلاً منهم جسد شخصيته بعمق وترك بصمة، من أحمد حلمي إلى صبري فواز، عارفة عبد الرسول، حنان سليمان، محمد ممدوح، محمد شاهين، تامر نبيل، أحمد عبد الحميد، محمود السراج، أمينة خليل والإعلامية لميس الحديدي، إضافة طبعاً إلى حضور الكينج محمد منير بشخصه وليس فقط بأغانيه.
تقدير وإشادة
إذا كان كل نجم شارك في هذا الفيلم ترك بصمة، فإن الأبطال الرئيسيين يستحقون التقدير والإشادة، أسيل عمران التي لم تتميز بدور مدرّسة الموسيقى المتعاطفة والداعمة الوحيدة لضي، والتي شكلت اللبنة الأولى لدفعه للخروج من العتمة إلى النور والوقوف أمام الناس ومواجهتهم والإعلان عن موهبته، بل أجادت التحدث بلهجة أهل الصعيد، الشاب محمد بدر حصل على فرصة كبيرة بتقديم دور بطولة في أول ظهور له في السينما، وبموهبته تمكن بدر من النجاح، الفنانة السودانية إسلام مبارك، التي اشتهرت في رمضان الماضي بدور «مدينة» في مسلسل «أشغال شقة» تألقت بدور زينب والدة ضي، بل عاشت الشخصية وتفاعلت معها بكل مشاعرها، كذلك الممثلة الشابة حنين سعيد الذي تؤكد مرة جديدة أنها تملك موهبة تستحق الكثير من الفرص لتقديم أدوار مهمة سواء في السينما أو في التلفزيون.
لم يصل ضي في الوقت المناسب ليشارك في برنامج اكتشاف المواهب «ذا فويس»، ولكنه وجد ما هو أهم وما جعله يواجه الناس، ويصبح اسمه على كل لسان، وصوته مسموعاً في كل مكان، وصار ضي قصة كفاح ونجاح وكسر لطوق الخوف من الاختلاف، واللافت أن العمق في هذا الفيلم، كتابة وإخراجاً، يستمر حتى آخر مشهد، والذي يرمز ببساطته إلى عمق المعاناة وأهمية الانتصار عليها، وهو مشهد احتفاظ ضي بضرسه ووقوفه مع أمه وشقيقته وصابرين لرميه في عين الشمس وهم يغنون حسب الموروث الشعبي «يا شمس يا شموسة».
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة الخليج ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة الخليج ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.