د. محمد الصياد *
باسم الهدر الحكومي Government waste، شن إيلون ماسك، حملة «تطهير» غير مسبوقة في تاريخ الإدارة الحكومية الكلية المعاصر، شملت إغلاق وزارات وهيئات ووكالات حكومية فيدرالية، للتخلص من عبء موازناتها التي تسهم في عجز الموازنة الأمريكية الفيدرالية الذي بلغ 1.8 تريليون دولار في 2024، من إجمالي الميزانية البالغ 6.9 تريليون دولار. الرئيس ترامب يريد من تحجيم الإدارة الحكومية، التخلص من تريليون دولار من النفقات، والهدف شطب 2 تريليون دولار مع نهاية 2026.
معلوم، أن ما يصدر من جهة الولايات المتحدة، سواء في صورة تشريعات أو تنظيرات في الاقتصاد السياسي الرأسمالي، سرعان ما تنتقل تطبيقاته إلى بقية دول العالم، عبر أقنية وأشكال نقل مختلفة، أقلها وطأة، ما يسمى أفضل الممارسات (Best practices).
لذلك، فإنه على وقع التطبيقات الكاسحة التي شرع في تنفيذها إيلون ماسك، الذي عينه الرئيس دونالد ترامب على رأس وزارة الكفاءة الحكومية، يصبح من نافلة القول، توقع بعض أوساط نخب الفكر السائد في بلدان الجنوب العالمي، بأن ترى شيئاً قريباً من التطبيقات (الإدارية الحكومية الترشيقية) التي حدثت في أمريكا، ربما تجد طريقها في بعض دول الجنوب العالمي، وذلك بحكم الدور المركزي الذي تضطلع به أمريكا في الحياة السياسية والاقتصادية الدولية.
هل فعلاً بلدان الجنوب العالمي وضمنها بلداننا العربية، تعاني نقص فاعلية (Efficiency) الأداء الاقتصادي؟ وهي، لذلك، بحاجة إلى «خضة» إدارية حكومية كلية، على غرار ما أحدثه الرئيس ترامب وفريقه الحاكم في الوزارات والهيئات والوكالات الحكومية؟ نرجح أن إجابة هذا السؤال معروفة سلفاً بالنسبة للمتخصصين والمشتغلين في حقل الإدارة الاقتصادية الكلية، ولكل المهتمين بسيرورة الحياة الاقتصادية اليومية في العالم النامي وضمنه عالمنا العربي، وذلك عطفاً على الواقع الإداري الكلي للحياة الاقتصادية السارية الذي يختزله ما يسمى «الشريط الأحمر» (Red tape)، أو «الروتين الحكومي» الذي يُستخدم، كمصطلح، للدلالة على البيروقراطية المفرطة، متمثلة في قواعد وإجراءات رسمية غير مبررة. مصطلح «الشريط الأحمر»، كان قد ظهر لأول مرة في أوائل القرن السادس عشر إبان عهد شارل الخامس، ملك إسبانيا وإمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة، الذي شرع في استخدام تعبير الشريط الأحمر في محاولةٍ لتحديث الإدارة التي كانت تُدير إمبراطوريته الشاسعة وترفيع فاعليتها، وذلك بوضع خيوط حمراء على أهم الملفات الإدارية التي كانت تتطلب سرعة البت فيها من قبل مجلس الدولة، وفصلها عن الملفات التي كانت تعالج بطريقة إدارية عادية، فتُربط بخيوط عادية. إنما ليس «الشريط الأحمر» وحده ينهض سبباً كامل الوجاهة لتبرير إحداث «الخضة» المطلوبة، فهناك التضخم الوظيفي والهدر غير المسوَّغ محاسبياً وإدارياً. حتى تحول الواقع الإداري الحكومي فعلياً، «بفضل» عدم المساس به، إلى جزء «أصيل» من «عدة شغل» مضايقة دورة نمو إجمالي الناتج وعناصر تدافعه، بحيث يمكن اعتبار عناصر «عدة الشغل» تلك، خصوماً غير منظورة Invisible liabilities بالمفهوم المحاسبي.
حتى الآن لم نلحظ بعد أي صدى في بلدان الجنوب العالمي (وبضمنه بلدان عالمنا العربي)، ل«الخضة» التي أحدثها الملياردير إيلون ماسك، بتفويض من رئيسه دونالد ترامب، في أجهزة التسيير الحكومية الأمريكية. قد يحدث ذلك في قادم الشهور، إنما بتحفظ وحذر شديدين، يرومان الموازنة بين خطورة تفسخ مكونات «الخصوم» المشار إليها آنفاً ووصولها لمرحلة استحالة الإصلاح، وبين الاستجابة الضرورية (ولو الشكلية)، لموجبات الشفافية ومكافحة الفساد والهدر الناتج عنه. وقد يتم التمهيد لذلك بتصدير موضوعها («الخضة» الإدارية)، أجندات وبرامج المؤتمرات والتجمعات الدولية والإقليمية. لكن، بما أن الأمر كله يتعلق بالتضخم الوظيفي الذي تعامل معه ماسك بعقلية الرأسمالي الشرس، وبما أن هذه إحدى سمات الهياكل البيروقراطية السائدة في بلدان الجنوب، فإن تهيباً وتردداً هو ما نتوقعه منها. لماذا؟
لأن أحداً، حتى الآن، لم يأخذ سياسة فريق ترامب الإداري وحزبه الجمهوري الحاكم، الخاصة بما يسميه ترامب حصون الدولة العميقة، الواقعة في الغالب تحت سيطرة منافسه الحزب الديمقراطي، على محمل الجد، بسبب الفوضى والمغامرة والمقامرة التي تتسم بها. وهي بهذا المعنى لا تستحق أن تتحول إلى دليل استرشادي لما يسمى أفضل الممارسات، ناهيك عن أن تكون نموذجاً جيداً للتنمية الإدارية، وضمنها الجزئية المتعلقة بفاعلية الأداء.
خصوصاً إذا ما أخذنا في الاعتبار أن مسوغ الحكومة الأصغر حجماً لتقليص عجز الموازنة والتخلص من إسفنجة الهدر والتحايل والفساد، التي تمتص جزءاً عزيزاً من عصارة الجهد التنموي، يخفي وراءه ما صار ذائعاً لكثير من الجمهور الأمريكي الواعي، وهو أن الرئيس وفريقه من المليارديرات، باتوا يديرون الحكومة الفيدرالية الأمريكية الآن كشركة كبرى، يؤدي قيامها بتسريح مجموعة من موظفيها، إلى انخفاض سعر سهمها في البورصة قليلاً قبل أن يعاود ارتفاعه فجأةً بفضل زيادة الإيرادات وقلة النفقات العامة. وقد شاهد الناس في أمريكا وخارجها كيف جيّر الرئيس ترامب إجراءاته الاقتصادية الداخلية والأخرى المتعلقة بعلاقات بلاده التجارية مع بلدان العالم، لصالحه ولصالح مجموعة من المقربين منه، والتي درّت عليهم أموالاً طائلة.
* خبير بحريني في العلاقات الاقتصادية الدولية
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة الخليج ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة الخليج ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.