في كتابه الجديد "بريك نك" "Breakneck: China’s Quest to Engineer the Future"، يقدّم الكاتب والمفكر الصيني المقيم في بكين دان وانغ رؤية تحليلية عميقة تثير النقاش حول ما يصفه بـ"الاختلاف البنيوي" بين الصين والولايات المتحدة، ليس في القيم أو القدرات، بل في العقول التي تدير الدولتين.
بينما تُدار أمريكا – بحسب وانغ – بعقلية المحامين، تحكم الصين بعقلية المهندسين. هذه الفرضية التي تبدو بسيطة في ظاهرها، تتحول في صفحات الكتاب إلى أطروحة فكرية متكاملة تُفسر الفجوة المتنامية بين القوتين الأكبر في العالم.
يستهل وانغ كتابه بتأكيد مدهش: رغم كل ما يُقال عن الاختلافات الثقافية والسياسية بين الشعبين الأمريكي والصيني، إلا أن أوجه الشبه بينهما أكثر مما يُعتقد. فكلا الشعبين – كما يرى – ماديان، عمليان، ومهووسان بالإنجاز والتنافس.
من ريادة الأعمال إلى السعي المحموم وراء الثروة، يشترك الأمريكيون والصينيون في نظرتهم البراغماتية للحياة والإنتاج، وفي انبهارهم بالتقدم التكنولوجي والمشاريع الضخمة التي تتحدى حدود الإمكان.
ومع ذلك، فإن النتيجة مختلفة تماماً: الصين تبني، بينما أمريكا – في رأي وانغ – تناقش وتؤجل وتمنع.
مهندسون مقابل محامين
يطرح وانغ تفسيره المحوري لهذا التباين في جملة واحدة لافتة: "الولايات المتحدة يحكمها المحامون، بينما تُدار الصين بواسطة المهندسين." فالمهندسون، كما يقول، يسعون إلى التنفيذ والبناء، بينما يميل المحامون إلى التشكيك والبحث عن الثغرات.
ومن هذا الفارق تنشأ هوة هائلة في الرؤية والتنفيذ: الصين تُنتج وتشيّد وتبتكر بسرعة هائلة، بينما تغرق الولايات المتحدة في شبكات القوانين والدعاوى والقيود البيروقراطية.
يدعم الكاتب رؤيته بأمثلة صارخة: فبينما بنت الصين أكبر شبكة للقطارات فائقة السرعة في العالم خلال بضع سنوات، لا تزال ولاية كاليفورنيا عاجزة عن إنشاء ميل واحد من سكة حديدية بعد عقدين من التخطيط.
الصين تبني آلاف السفن سنوياً، بينما تنتج أمريكا القليل. الصين تمتلك فائضاً من الشقق السكنية الجاهزة، بينما تواجه أمريكا أزمة إسكان خانقة.
كل ذلك – كما يقول وانغ – ليس صدفة اقتصادية، بل نتيجة مباشرة لاختلاف من يتخذ القرار.
من يخطط للمستقبل؟
يستند وانغ في تحليله إلى خلفية الحزب الشيوعي الصيني الذي تغلب عليه التخصصات الهندسية، خصوصاً في لجانه العليا، مثل المكتب السياسي للحزب.
غالبية أعضاء الحزب من خريجي الهندسة، ممن اعتادوا على التفكير بطريقة حسابية ومنهجية، تركز على المشروعات والبنية التحتية والنتائج الملموسة. وهؤلاء – كما يقول – يفضلون التخطيط والتنفيذ على النقاش النظري أو التشريعي.
في المقابل، فإن النخبة السياسية الأمريكية، منذ تأسيس الجمهورية، يغلب عليها خريجو كليات القانون، ممن يرون العالم كسلسلة من الإجراءات والقواعد والمنازعات. لذلك، تميل السياسات الأمريكية – وفقاً للكاتب – إلى التنظيم والتقنين أكثر من البناء والتنفيذ.
لكن وانغ لا يقدّم رؤية مثالية للصين، فهو يوضح أن سيطرة العقلية الهندسية على الدولة تحمل أيضاً مخاطر كبيرة. فحين يحاول المهندسون "تخطيط المجتمع" كما يخططون لبناء جسر، تكون النتائج كارثية.
ويضرب أمثلة على ذلك بسياسات مثل "الطفل الواحد" والإغلاق الصارم خلال جائحة "كوفيد-19"، اللذين جسدا كيف يمكن للهندسة الاجتماعية أن تتحول إلى قيد على حرية الإنسان.
أمريكا: عندما يتغلب القانون على النمو
وفي الجانب الآخر من الأطلسي، يرى وانغ أن الولايات المتحدة دخلت في مرحلة "الشلل القانوني"، حيث أصبح النظام القانوني المتشعب والبيروقراطية المفرطة عائقاً أمام التنمية.
أصبح المحامون الذين يهيمنون على السياسة الأمريكية، كما يكتب، أصبحوا أكثر اهتماماً بوضع القيود من إزالة العقبات، ما جعل البيئة الاستثمارية أقل ديناميكية.
هذا ما جعله يرى أن أمريكا انتقلت من "ثقافة البناء" التي ميّزتها في القرن العشرين – حين أنشأت شبكات السكك الحديدية والطرق السريعة والمدن الصناعية – إلى ثقافة تركز على تجنب المخاطر أكثر من تحقيق الإنجازات.
ورغم قوة الحجة التي يقدّمها وانغ، فإن بعض المراجعين – ومنهم الاقتصادي الأمريكي نواه سميث – يتساءلون عمّا إذا كانت الفوارق بين البلدين تعود حقاً إلى طبيعة الحكّام أم إلى مراحل تطور الاقتصاد ذاته.
ربما تمر كل الدول، كما يشير، بمرحلة "الهندسة أولاً" في بداياتها الصناعية، ثم تتحول لاحقاً إلى مرحلة "القانون والتنظيم" مع ازدياد الثروة والتعقيد الاقتصادي. بهذا المعنى، قد تكون الصين اليوم ببساطة في المرحلة التي كانت تمر بها أمريكا قبل سبعين عاماً.
اليابان والدرس المقارن
لإثبات محدودية فرضية "المهندسين ضد المحامين"، يشير سميث إلى مثال اليابان، التي لطالما كانت بيروقراطيتها مكونة أساساً من خريجي كليات القانون، ومع ذلك نجحت في بناء اقتصاد صناعي ضخم ومزدهر. فالقانونيون اليابانيون لم يروا في دورهم وظيفة تعطيل، بل وسيلة لتنظيم النمو وتوجيهه.
وهنا يخلص المراجع إلى أن التخصص الأكاديمي لا يحدد بالضرورة مصير الأمم، بقدر ما تحدده الثقافة المؤسسية والسياسات العامة التي يطبقها صانعو القرار.
بين الهندسة والتخطيط المركزي
ويضيف سميث أن بعض الباحثين يرون أن ما يميز الصين ليس "ثقافة المهندسين"، بل النهج اللينيني في الحكم الذي يمنح الدولة سيطرة مركزية مطلقة على التخطيط الاقتصادي.
الشيوعية بطبيعتها، كما يقول سميث، تميل إلى التحكم بكل التفاصيل، من تخصيص الموارد إلى توجيه التعليم، وهو ما يفسّر هيمنة التخصصات الهندسية على النظام الصيني.
كما أن الاقتصاد الصيني في مرحلة البناء المكثف لا يزال بحاجة إلى من يشيد المصانع والجسور، بينما الاقتصادات الغنية تحتاج أكثر إلى من يدير السياسات ويوازن المصالح.
ومع ذلك، يرى سميث أن أطروحة وانغ تحتفظ بقيمتها التحليلية، لأنها تسلط الضوء على أزمة "ثقافة التعطيل" في أمريكا، التي جعلت من القوانين وسيلة لعرقلة النمو بدلاً من تحفيزه. فالولايات المتحدة، كما يكتب، أصبحت "مجتمعاً يفضل المقاضاة على البناء"، وهو ما جعلها تخسر السباق أمام الصين في ميادين البنية التحتية والإنتاج الصناعي.
إعادة تعريف الريادة
في ختام الكتاب، يطرح وانغ رؤية تدعو الأمريكيين إلى إعادة التفكير في معنى التقدم والابتكار. فربما آن الأوان – كما يشير – أن تستعيد الولايات المتحدة روحها البنّاءة التي ميّزت حقبة التصنيع الكبرى، وأن تتعلم من خصمها الآسيوي أن الطموح لا يتحقق بالنقاش وحده، بل بالعمل الملموس.
أما بالنسبة للصين، فيحذر الكاتب من أن الهوس بالبناء قد يتحول إلى عبء إذا لم يُوازَن بحرية الإبداع والمساءلة المؤسسية. فالمستقبل، كما يلخص، لن يكون ملكاً للمهندسين وحدهم، بل لأولئك القادرين على الجمع بين الرؤية التقنية والحكمة الإنسانية.
في النهاية، "بريك نك" ليس مجرد مقارنة بين ثقافتين سياسيتين، بل هو دعوة للتأمل في منطق التقدم ذاته: هل نصنع المستقبل بالقوانين أم بالمشروعات؟ وهل يمكن التوفيق بين العقلية البنّاءة والعقلية التنظيمية في نموذج تنموي واحد؟
أسئلة تجعل من كتاب دان وانغ إضافة فكرية جريئة ومثيرة للجدل في النقاش العالمي حول صعود الصين وتراجع الغرب، وتجعله قراءة ضرورية لكل من يسعى لفهم هندسة المستقبل.
المصدر: نوابينيون
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة ارقام ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من ارقام ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.
