بمراجعة عميقة لحال التعليم خلال الخمس والعشرين سنة الماضية نجد أن هناك جهوداً كبيرة بُذلت لتحسين وتطوير التعليم الذي صُرفت عليه خلال هذه الفترة ميزانيات ضخمة، أكثر من 3 تريليونات ريال، ونفذت مشاريع تعليمية كثيرة، وصدرت قرارات تنظيمية سامية، لكن التعليم العام في تراجع لا يتناسب مع طموحات القيادة، ومستهدفات الرؤية، وتطلعات الطلاب، وأسرهم.
هذا التراجع الذي لا يليق بمكانة المملكة تؤكده التقييمات والاختبارات الدولية والتقارير العالمية الصادرة عن منظمات عالمية مثل اليونسكو، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، والبنك الدولي، وتؤكده أيضاً الاختبارات الوطنية، وتقارير هيئة تقويم التعليم عن التميّز المدرسي، مما يتأكد معه أن قطاع التعليم في المملكة يعاني من أزمة تعليمية مزمنة تهدّد مستقبل الأجيال القادمة والنمو الاقتصادي والبنية الاجتماعية والثقافية والبعد الأمني والفكري، وتتطلب إصلاحاً جذرياً وتدخلاً سريعاً وحازماً لضمان تحقيق أهداف رؤية 2030 في بناء جيل قادر على المنافسة عالمياً، ومستوعب للمتطلبات الاقتصادية الوطنية التي تحققها المملكة حالياً في ظل الرؤية وتوجيهات القيادة ومتابعتها الحازمة.
تُعد بعض المتطلبات ركائز أساسية لا غنى عنها لنجاح أي نظام تعليمي متكامل، ويُنظر إليها باعتبارها عوامل حاسمة في رفع جودة التعليم وتعزيز أثره التنموي. وفي واقعنا التعليمي، ما زال هناك مجال واسع لتعزيز هذه المتطلبات وتفعيلها بشكل مؤسسي، ومن أبرزها:
الرؤية الوطنية الموحدة للتعليم: وجود رؤية واضحة ومعتمدة يعد أساساً لتوجيه الجهود وتوحيد المسار التعليمي مع رؤية 2030.
السياسات التعليمية المواكبة للمستجدات الوطنية والعالمية: إذ لم يتم تحديث السياسة التعليمية منذ ما يقارب خمسين عاماً، الأمر الذي يبرز الحاجة الملحّة لمراجعتها بما يتناسب مع رؤية 2030 والتحولات المتسارعة.
النظام التعليمي الشامل: وجود نظام يحكم عملية التعليم ويضبطها يعد عنصراً محورياً لتكامل السياسات والإجراءات.
حوكمة التعليم وآليات المساءلة والتقييم: فهي تشكّل الأداة الأهم لرفع كفاءة المؤسسات التعليمية وضمان جودة المخرجات.
بالإضافة إلى ضرورة تحقق تلك المتطلبات الرئيسة، فإن هناك مجموعة عوامل تدل أيضاً على وجود أزمة في تعليمنا، منها:
جودة التعليم لا تتناسب مع القرارات السامية الساعية لتحسين التعليم ولا حجم الاستثمار المبذول، فعلى الرغم من الإنفاق الحكومي الكبير والاستراتيجيات المتعددة، فإن جودة المخرجات لا تزال دون المستوى المطلوب مقارنة بالدول المتقدمة والإقليمية والخليجية، حيث أظهرت نتائج تقويم مدارس المملكة الحكومية والخاصة لعام 2024 أن 299 مدرسة فقط حصلت على درجة التميّز من بين أكثر من 30 ألف مدرسة.
ضعف مهارات الطلاب في المواد الأساسية الذي تؤكده نتائج الطلاب في اختبارات التقييم الدولية مثل PISA وTIMSS وهي نتائج منخفضة جداً وتكاد تكون المملكة في مؤخرة قائمة الدول المشاركة في هذه الاختبارات والتقييمات، مما يشير إلى فجوة في جودة التعلم، حيث يوجد ما يزيد على 50% من طلبتنا تحت الحد الأدنى للأداء في تلك الاختبارات الدولية، وهذا لا يتناسب مطلقاً مع ما توليه القيادة من اهتمام بالتعليم، ولن يدعم تحقيق رؤية 2030.
هناك أزمة ثقة متزايدة بين التعليم من جهة وبين الطالب والأسرة والمعلم وإدارة المدرسة من جهة أخرى، مما أوجد ضعف قيمة التعليم والتعلم، وأفرز ظواهر غير مسبوقة في تاريخ التعليم تؤكد انخفاض الثقة بالتعليم، مثل ظاهرة الغياب الكثيف والتسرّب عن المدرسة. هناك أزمة ثقة في قرارات الوزارة المتناقضة والمربكة للأسرة والمعلمين وإدارات المدارس، فضلاً عن أنه ليست هناك استمرارية وثبات لجهود منظومة التطوير والتحسين، وتعدد الإستراتيجيات في آخر عشر سنوات خير مثال.
كما أن التطوير والتحسين للتعليم يعاني من التركيز الجزئي دون وجود نموذج متكامل بعيد المدى مبني على رؤية وطنية، بل يتم طرح مبادرات فردية وفق اجتهادات شخصية.
الفاقد التعليمي للطلاب زاد بشكل حاد، فبعد أن كان سنتين قبل جائحة كورونا أصبح بين ثلاث إلى أربع سنوات، وهو من أكثر نسب الفاقد التعليمي على مستوى العالم.
النتيجة الطبيعية لضعف تحقق تلك المتطلبات الرئيسة ووجود هذه العوامل هي انخفاض جودة التعليم وضعفه وعدم القدرة على المنافسة إقليمياً وعالمياً، مما نتج عنها أزمة تعليم ذات تأثيرات كبيرة على مجموعة أبعاد اقتصادية واجتماعية وتنموية وأمنية وفكرية:
اقتصادياً:
توضّح الأبحاث والدراسات أن الدول ذات الأنظمة التعليمية المتقدّمة تحقق نمواً اقتصادياً أعلى بنسبة 2% سنوياً مقارنة بالدول ذات التعليم منخفض الجودة.
كما تؤكد تقارير منظمات دولية، منها OECD، وشركة McKinsey، أن: كل سنة إضافية من التعليم الجيد تعزز دخل الفرد بنسبة تتراوح بين 8-13%، ووفق تقرير البنك الدولي لعام 2020 فإن تحسين نتائج التعليم بمقدار انحراف معياري واحد في اختبار PISA يعزز نمو الناتج المحلي بنسبة تصل إلى 2% سنوياً على المدى الطويل، كما قدر تقرير صادر عن McKinsey Global Institute أن الاقتصادات التي لا توائم تعليمها مع احتياجات السوق تخسر ما يقارب 1.5% من ناتجها المحلي سنوياً بسبب البطالة المقنعة وضعف الإنتاجية. إضافة إلى ذلك، تشير الدراسات إلى أن ضعف جودة التعليم يحدّ من القدرة على الابتكار وريادة الأعمال عند الشباب، ويجعل الاقتصاد أكثر اعتماداً على القوى العاملة الأجنبية، وما يتبع ذلك من رفع مستويات البطالة وغيرها.
اجتماعياً:
للتعليم تأثير مباشر على حياة الأفراد وتطور المجتمعات. فهو ليس مجرد وسيلة لاكتساب المعرفة، بل هو حجر أساس للمجتمع الحيوي المنتج، وكل تراجع في جودة التعليم يقود إلى ارتفاع معدلات البطالة والجريمة، وانخفاض جودة الحياة. كما أن التعليم منخفض الجودة يدفع المجتمع إلى فقد قيمة التعليم وعدم دعمه وتعزيزه، وإذا انخفضت قيمة التعليم والتعلم لدى المجتمع زادت الفجوة التعليمية وأصبح لدينا جيل منخفض القدرات غير قادر على تحقيق طموحات ومستهدفات رؤية 2030، والمساهمة في بناء الاقتصاد القائم على المعرفة.
أمنياً وفكرياً:
بدون أدنى شك أن التعليم منخفض الجودة الذي يركز على مناهج وأنشطة تعليمية غير مواكبة للتحوّلات العالمية سينتج عنه أفراد يفتقدون مهارات التفكير والتعامل مع التحديات الفكرية والأمنية. هذا يؤدي إلى مجتمع هشّ ينقصه الكثير من المهارات ويصبح أكثر عرضة للتأثر بالأفكار المتطرفة والانحرافات الفكرية التي تهدد أمن المجتمع واستقراره.
مما سبق يتضح أن النظام التعليمي يواجه فجوة في وجود مؤشرات وطنية دقيقة ترصد حجم الخسائر التعليمية المتراكمة عبر السنوات الماضية وتقيس مداها الحقيقي. كما أن هناك حاجة إلى برنامج وطني متكامل لمعالجة الخلل وتعويض الفاقد التعليمي بما ينعكس إيجاباً على جودة المخرجات التعليمية. إضافة إلى ذلك، لا تزال هناك مساحة لتطوير آليات قياس علمية تربط بين نتائج الاختبارات الوطنية والدولية مثل TIMSS وPISA وبين السياسات والبرامج التعليمية المنفذة، بما يضمن الاستفادة المثلى من هذه النتائج.
أما الجانب الأكثر غياباً حتى الآن، فهو تقدير الكلفة الاقتصادية والاجتماعية لهذه الأزمة التعليمية، وما تسبّبه من فجوة في سوق العمل وانعكاساتها على التنمية الوطنية.
ولعل القارئ الكريم يتساءل ما الحل في ظل وجود هذه الأزمة وإنقاذ تعليمنا من انهيار صامت؟ ولعلي هنا أقترح خطوطاً عريضة تساهم في المعالجة الجذرية المبنية على رؤية وطنية:
- تشكيل مجلس أعلى للتعليم، يتولى اعتماد النموذج الإصلاحي للتعليم والإشراف بشكل مباشر على تنفيذه وخاصةً في سنواته الأولى، ويتعامل مع الحلول الجذرية المناسبة من إعادة هيكلة النظام التعليمي إدارياً وفنياً بعيداً عن البيروقراطية السلبية التقليدية المعيقة.
- تبنّي نموذج غير تقليدي (Disruptive) في إصلاح التعليم، يستهدف إعادة صياغة وبناء النظام التعليمي من الجذور متجاوزين التحسينات السطحية والاجتهادات الفردية.
- وضع رؤية تعليمية وطنية تتناسق مع رؤية 2030، وتوجّه التعليم نحو المستجدات من المهارات الحديثة والذكاء الاصطناعي وتطبيقاته والاقتصاد الرقمي والربط المباشر بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل.
أخبار ذات صلة
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة عكاظ ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من عكاظ ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.