قبل أن تغزو روبوتات الاستثمار عالم المال وتتحول إلى حديث الأسواق، جاء كتاب "عصر الآلة الثاني" (The Second Machine Age) لمؤلفيه إيريك برينجولفسون وأندرو مكافي أشبه بجرس إنذار مبكر.
فقد رسم المؤلفان ملامح زمن جديد، تتجاوز فيه الخوارزميات دورها كمجرد أدوات مساعدة لتغدو قوى محركة قادرة على إعادة تشكيل الاقتصاد العالمي، بما في ذلك أعمق أركان أسواق المال.
واليوم، تحققت تلك النبوءة مع صعود ما يُعرف بالمستشارين الآليين، الذين أغرت وعودهم المستثمرين بتحقيق أرباح شبه مضمونة وبأقل تدخل بشري.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
فالمشاهد النمطية القديمة التي اعتاد عليها المستثمرون مثل القاعات المزدحمة بالوسطاء، والهواتف التي تصدر رنينًا متواصلًا، ووجوه متوترة تترقب حركة المؤشرات أصبحت في طي النسيان.
فالمشهد تغيّر جذريًا؛ فاليوم يكفي تطبيق ذكي أو منصة رقمية ليتولى "مستشار آلي" إدارة ثروات بمليارات الدولارات، بضغطة زر وبلا انفعال بشري.
ومع هذا التحول السريع، بدأ يتشكل إحساس جماعي بأن المستقبل المالي لم يعد يُدار بالعاطفة أو الحدس، بل بالبيانات والخوارزميات الباردة.
لكن هذه الصورة الوردية سرعان ما تصدعت مع بروز تحذيرات من مخاطر خفية، تبدأ من التحيزات البرمجية وتنتهي عند الانكشاف الحاد لتقلبات السوق، لتبقى روبوتات الاستثمار معلقة بين وهم الأرباح المضمونة وشبح المخاطر غير المرئية.
صعود الروبوتات إلى صدارة المشهد
خلال سنوات قليلة، قفزت منصات مثل بيترمنت وويلث فرونت وفانجارد ديجيتال أدفايزر وشواب إنتليجنت بورتفوليوز إلى صدارة المشهد، لتدير معًا أكثر من تريليون دولار أمريكي من الأصول عالميًا في عام 2024، بحسب بيانات ستاتيستا.
ويدعم هذا التحول العديد من المميزات التي تجعل تلك الروبوتات أكثر جاذبية مثل الرسوم المنخفضة، والتوافر على مدار الساعة، والقرارات محسوبة على أساس بيانات وخوارزميات لا تعرف الطمع أو الخوف.
ووُصف الأمر بأن انتشار تلك الروبوتات يعد بمثابة "دمقرطة للاستثمار"، إذ بات بإمكان المستثمر الصغير أن يحصل على أدوات كانت حكرًا على الكبار.
ورغم حداثة عهدها، فإن هذه المنصات تحولت بسرعة إلى منافس جاد للمستشارين الماليين التقليديين.
ففي الولايات المتحدة وحدها، ارتفعت نسبة المستثمرين الذين يعتمدون على المستشارين الآليين من أقل من 5% عام 2017 إلى أكثر من 15% عام 2023، وفقًا لتقرير صادر عن ديلويت.
ويعود ذلك إلى عاملين رئيسيين، الأول هو انخفاض التكلفة؛ إذ لا تتجاوز رسوم الإدارة في معظم هذه المنصات 0.25% من قيمة الأصول، مقارنةً بـ 1% أو أكثر في حالة المستشار البشري.
أما العامل الثاني فهو سهولة الوصول عبر التطبيقات الذكية التي تجعل إدارة المحافظ المالية ممكنة بضغطة زر، في أي وقت ومن أي مكان.
ولم يقتصر صعود الروبوتات الاستثمارية على المستثمرين الأفراد فحسب، بل امتد ليشمل المؤسسات أيضًا، حيث بدأت بعض البنوك الكبرى في أوروبا وآسيا بدمج حلول المستشارين الآليين ضمن خدماتها لعملاء التجزئة للحفاظ على تنافسيتها أمام المنصات الرقمية الناشئة.
النمو المتسارع للأصول المدارة عبر روبوتات الاستثمار (2023-2027): | ||
العام | حجم الأصول المدارة (تريليون دولار) | ملاحظات |
2023 | 1.08 | (أول مرة يتجاوز تريليون دولار) |
2024 | 1.2 | (تقديرات) |
2025 | 1.3 | (توقعات) |
2026 | 1.5 | (توقعات) |
2027 | 1.75 | (توقعات) |
فعلى سبيل المثال، أطلق بنك "يو بي إس" السويسري خدمة استثمار آلية موجهة للعملاء ذوي الثروات المتوسطة، لتكمّل خدمات إدارة الثروات التقليدية.
ويشير محللون إلى أن هذا التحول يعكس تغييرًا أعمق في الثقافة المالية، فالمستثمر الشاب من جيل الألفية أو جيل "زد" لا يبحث فقط عن الأرباح، بل عن تجربة استثمارية تشبه تطبيقات التكنولوجيا المالية الأخرى: سريعة، ومبسطة، وشفافة.
ومن هنا جاء وصف روبوتات الاستثمار بأنها جزء من "تكنولوجيا الجيل الجديد للثقة"، إذ لم تعد الحاجة إلى لقاءات طويلة مع مستشار مالي شرطًا لبدء رحلة الاستثمار.
وهم الأرباح المضمونة
ومع أن هذه المنصات قدمت نموذجًا مبتكرًا لكسر الحواجز بين الأفراد وأسواق المال، إلا أن صعودها السريع أثار أيضًا نقاشًا واسعًا حول مخاطر الاعتماد الكامل على الخوارزميات.
ورغم وعود المكاسب جراء انتشار تلك الروبوتات، فإن الكثيرين غاب عنهم أن الأسواق بطبيعتها لا تعطي ضمانات.
ففي عام 2022 حين تراجعت الأسواق بسبب التضخم والأزمات الجيوسياسية، ولم تنجُ المحافظ المدارة آليًا من الخسائر، بل تكبدت نتائج مشابهة لغيرها.
ورغم أن الروبوتات أعادت موازنة المحافظ بكفاءة، فإنها لم تستطع كسر قاعدة السوق القديمة، وهي لا أحد محصّن أمام تقلبات كبرى.
هذه المخاطر تتضاعف عند وقوع أحداث استثنائية مثلما حدث في مارس 2020 مع انهيار الأسواق بفعل جائحة كورونا.
وكشفت تقارير هيئة الأوراق المالية الأمريكية أن بعض روبوتات الاستثمار توقفت عن العمل ساعات حرجة بسبب الضغط الكبير على أنظمتها، تاركة العملاء في مواجهة السوق بلا دعم.
وفي اليابان، عام 2021، أدى خلل في نظام استثماري آلي تابع لأحد البنوك الكبرى إلى سلسلة من الصفقات الخاطئة كبدت المستثمرين خسائر بملايين الدولارات.
مخاطر خفية خلف الشاشات
وخلف صورة الروبوتات الزاهية، يكمن جانب آخر أقل بريقًا، فهناك إشكالية تتعلق بالتحيزات البرمجية، فالخوارزمية مهما بدت بأنها محايدة، تظل تعكس بشكل مباشر أو غير مباشر افتراضات المبرمجين أو توجهات الشركات.
هذا يعني أن قرارات الاستثمار ليست بالضرورة محايدة كما يُروّج لها، وهو ما يطرح تساؤلات جوهرية حول مدى موضوعية "المستثمر الآلي".
إلى جانب ذلك، يواجه المستثمرون مخاطر تتعلق بالاعتماد المفرط على التقنية، فالثقة العمياء بأن الروبوت "يعرف كل الإجابات" قد تضعف وعي الأفراد المالي، وتحوّلهم إلى متلقين سلبيين للقرارات.
المخاطر لا تقتصر بالطبع على الأسواق وحدها، بل تمتد إلى الأمن السيبراني، فكونها منصات رقمية يجعل روبوتات الاستثمار عرضة للاختراقات وتسريب البيانات الحساسة، وهو ما دفع هيئات الأوراق المالية لإصدار تحذيرات متكررة حول حماية بيانات العملاء.
ورغم كل هذه التحذيرات، لم يتراجع الإقبال، بل يتوسع بوتيرة متسارعة، فتقارير ديلويت وبرايس ووترهاوس كوبرز تتوقع أن تتجاوز الأصول المدارة عبر هذه المنصات 1.5 تريليون دولار أمريكي بحلول عام 2027.
ويأتي هذا التوسع جراء انتشارها في الأسواق الناشئة ودمجها بشكل أكبر مع تطبيقات الهواتف الذكية.
لكن يظل سؤال "من المستفيد الحقيقي؟" حاضرًا، فبعض المنصات، تحت شعار "خدمة المستثمر"، قد توجه العملاء نحو صناديق استثمارية تابعة لها لجني رسوم إضافية.
كما يقوم بعضها بالاحتفاظ بجزء من النقد في حسابات منخفضة العائد مما يفيد الشركة أكثر مما يفيد المستثمر.
وهكذا، فإن ما يبدو خدمة مجانية أو منخفضة التكلفة قد يخفي نماذج ربحية معقدة تصب في مصلحة الشركات نفسها.
بين الأداة والوهم
رغم كل ذلك، لا يمكن إنكار أن روبوتات الاستثمار تمثل أداة قوية غيّرت قواعد اللعبة في عالم المال، فهي تمنح المستثمرين الصغار إمكانية الوصول إلى استراتيجيات متقدمة بكلفة أقل، وتوفر سرعة في التنفيذ وانضباطًا في القرارات قد يفتقده البشر.
لكن قوتها يجب أن تكمن في كونها مكملًا للعقل البشري، لا بديلًا عنه، فالخوارزمية لا تفهم أهدافك الشخصية، ولا تدرك درجة صبرك أو قدرتك على تحمّل الخسارة، ولا تستطيع حمايتك من أحداث غير متوقعة قد تقلب موازين الأسواق في لحظة.
في عالم المال، ليس كل ما يلمع ذهبًا، فقد تبدو روبوتات الاستثمار وكأنها مفتاح للثروة السهلة، لكنها في لحظة قد تتحول إلى فخّ يقود إلى خسائر موجعة.
ومن يظن أن الخوارزميات تحميه من تقلبات السوق أو من مخاطره الشخصية، قد يستيقظ ذات يوم ليكتشف أن الأزرار التي ضغطها بأصابع مطمئنة كانت في الحقيقة بوابة إلى قرارات لا رجعة فيها.
ويظل الوعي والانضباط شبكة الأمان الرئيسية للمستثمر الذي يعد الحلقة الأضعف بين وهم الأرباح المضمونة وشبح المخاطر الخفية.
المصادر: أرقام- فايننشال تايمز- هيئة الأوراق المالية الأمريكية- ديلويت- بنك التسويات الدولية- ستاتيستا
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة ارقام ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من ارقام ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.