عرب وعالم / السعودية / عكاظ

تراث الضيافة

كنت محباً البدء بعنونة المقالة بجملة «رحلة الضيافة ».. كمشروع لاستعادة الثقة بالهوية المحلية.. ولأنه عنوان به تلخيص الفكرة، وجدت نفسي أخلق التمهيد لذلك من خلال حقيقة تثبت أنه لا تنشأ الهويات الكبرى من فراغ، ولا تولد من فجوة بين الماضي والحاضر، بل تتشكل عبر تراكمات رمزية، وسلوكيات متجذرة، وقيم يُعاد صياغتها في كل حقبة بلغة تتماشى مع روحها، ومن بين هذه القيم المتجذرة في الوجدان ، تبرز الضيافة لا بوصفها سلوكاً اجتماعياً عابراً، بل كهوية أصيلة ورافعة حضارية، تكتب بها المملكة اليوم أحد أكثر فصولها نضجاً في سردية التحول الوطني.

وانطلاقاً مما سبق، لا يمكن اعتبار مشروع «رحلة الضيافة السعودية»، الذي أُطلق مؤخراً يعد مبادرة فندقية محضة، ولا تحركاً تجارياً يحاكي السوق من زاوية التنافس، بل هو تجسيد دقيق لتحول ثقافي عميق، تنقله السعودية من العفوية المحلية إلى الاحتراف العالمي، دون أن تفقد فيه حرارة الترحاب، ولا نكهة القهوة الأولى.

تعمل المملكة، في سياق رؤيتها 2030، على إعادة تعريف القطاعات التقليدية كمجالات إستراتيجية، لا من خلال السياسات فقط، بل عبر بناء هوية متماسكة ومتفردة لكل قطاع، والسياحة بوصفها صناعة ناعمة، باتت اليوم تختزن الأبعاد الاقتصادية والثقافية والدبلوماسية، ومعها تحولت الضيافة إلى واجهة وطنية تروّج للسعودية دون أن تنطق حرفاً.

هنا بالضبط، تأتي أهمية المشروع، الذي لا يُقدّم «منتج إقامة»، بل يُقدّم سردية متكاملة، بدءاً من استقبال الضيوف إلى مغادرتهم، حيث تتحدث الجدران، وتهمس الروائح، وتعبّر الأزياء، وتُحكى القصص من خلال النكهات، والتراحيب، والنغمات، والروائح العطرية، وهي تجربة تذوب فيها الحواس لتستيقظ في وجدان الزائر ذاكرة لا تُنسى.

ومن اللافت أن المشروع لم يأتِ كتصميم خارجي مستورد، بل كمحصلة لممارسات تراثية أُعيدت صياغتها داخل منظومة، ومن الجميل هنا، أن المشروع استعان بنخبة من الكفاءات السعودية، في الطهي والعطور والموسيقى والأزياء، لماذا؟؛ لإنتاج نموذج سعودي خالص، يثبت أن التقاليد يمكن أن تكون تنافسية إذا ما أُعيد تقديمها بلغة السوق العالمية دون المساس بجوهرها.

إن استخدام مصطلح «الرحلة» في عنوان المشروع لم يكن عفوياً؛ فالمقصود هنا ليس فقط انتقال الضيف من لحظة إلى أخرى، بل انتقال المملكة نفسها من طور الضيافة بوصفها «واجباً اجتماعياً»، إلى الضيافة بوصفها علامة وطنية قابلة للتصدير، ومجالاً معرفياً يمكن تدريسه واستثماره واستدامته.

وعند الخوض في فهم تفاصيل مشروع «رحلة الضيافة السعودية»، من المهم الوعي، بأنه لا يكتفي بتقديم الضيافة بوصفها منتجاً أو تجربة حسية، بل يُبنى من الداخل على تمكين الكفاءات الوطنية، وتهيئة لاستقطاب الكفاءات الوطنية داخل المجموعة، بما يواكب إستراتيجية سوق العمل السعودي، ويعزز من مستهدفات التوطين في القطاعات الخدمية عالية التأثير.

ويتماهى المشروع في أبعاده مع وطنية مثل: جودة الحياة، والإستراتيجية الوطنية للثقافة، وتنمية القدرات البشرية، ليكون نموذجاً حياً لتكامل الرؤية بين القطاع الخاص والمستهدفات الوطنية الكبرى، فالضيافة - بالنسبة لنا - ليست أريكة فاخرة أو وجبة دافئة، بل أداة اتصال غير لفظي، تُخبر الضيف بأنه في وطنٍ لا يكتفي باستقباله، بل يروي له تاريخه من خلال التفاصيل، ففي الملبس تختبئ الجغرافيا، وفي القهوة تنطق العادات، وفي الموسيقى تتجلى اللهجات، وفي العطور تستحضر الذاكرة المجتمعية برمتها.

وهنا تتجلّى عبقرية التوجه السعودي في القطاع السياحي، الذي لا يكتفي بجذب الزوار عبر البنية التحتية، بل يُراهن على «الذاكرة العاطفية» كأداة جذب مستدامة، فالزائر الذي يُحاط بتجربة إنسانية أصيلة، لا يعود كسائح فقط، بل كناقل للرسالة، وشريك في الترويج، وامتداد للصورة.

نحن أمام مشروع لا يقف عند جدران الفنادق، بل يُعيد ترتيب علاقة الإنسان السعودي بزائره، ويحوّل القيم غير المادية إلى قيمة مضافة في الاقتصاد والتواصل والمكانة، وهي لحظة تحول لا تُقاس بعدد الأسرّة المحجوزة، بل بعدد القصص التي سيحملها الزوار عن المملكة.

في المحصلة النهائية، فإن «رحلة الضيافة السعودية»، هي بداية لمشروع وطني أعمق: مشروع استعادة الثقة بالهوية المحلية بوصفها منتجاً عالمياً، ومشروع تفكيك الفجوة بين الأصالة والعولمة، وفتح باب جديد لتاريخ يُروى ليس بالكلمات، بل بالحواس.

أخبار ذات صلة

 

ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة عكاظ ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من عكاظ ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.

قد تقرأ أيضا